الأحد، 24 يناير 2016

ثنائية الهدم والبناء في كتاب (يوميات سندباد الصحراء) للقاص والروائي عبد العزيز الراشدي


لا مراء أن الحكايات الشعبية الموغلة في القدم  تحتفي احتفاءً مميزا بشخوصها، وذلك  ما يجعل جسرها ممتدا إلى الحاضر وحبلها ممدودا يطوي المسافات نحو المستقبل،تلكم هي بزة قصة (كلكامش والبحث عن الخلود)  وحكاية (سيف بن ذي يزان)  وسيرة (عنترة بن شداد) و حكايات (علاء الدين والمصباح السحري) وحكايات (علي بابا والأربعين حرامي) وحكايات( ألف ليلة وليلة) ؛ هذه الأخيرة التي أجد فيها شهرزاد متمردة حكاية، وهي توطن سطوة السرد و امبراطوريته، وتحدد دعاماته الأساسية في صد ما لا يصده السيف ولا الرمح ولا قطاع الطرق ولا الشعراء الصعاليك، أجدها تحذو حذو أبي زيد السروجي  في أغلب مقامات الحريري، فشهرزاد وهي تحكي رحلات السندباد البحري كانت منشرحة الصدر ماسكةً زمام السرد بكل أريحية وعنفوان، لا لشيء إلا أن السندباد البحري أثار اندهاش المتسلط شرعيا (شهريار) وجعله يهفو ويغالط الكرى وهو يستمع إلى السرد حيث يكسر شوكته،تماما كما يهدأ نزق الأطفال واندفاعهم وهم يسمعون حكايات الغول وعائشة قنديشة من فيه الجدات .إلا أن الاحتفاء بالسندباد البحري  بصفته بطلا جال البحار على وُعُورتها يضمر داخل السرد الشهرزادي ـ إن على لسانها أو على لسان السندباد البحري نفسه ـ تقليلا وتهميشا لشخصية أخرى لا تقل أهمية من حيث إثارة العنصر العجائبي داخل الرحلات وأقصد بالذات هنا النسدباد البري ؛الذي أكل الفقر حواشيه وظل عاملا يدويا ينتقل  بين الدروب والأزقة كما تنتقل خادمات البيوت،وإن كانت الخادمات  لها ألف حكايات تحكيها، أما السندباد البري فقد صورته شهرزاد مجردا من ارثه الحكائي وجعلته كالأصم يزاول عمله مقابل أجرة تقيه شر تلك الأحمال البالية التي كسرت ظهره مقابل ثمن زاهد، حتى وهو يستمع إلى شهرزاد البحري،الذي ظل يتردد إليه كل يوم للاستماع إلى رحلاته العجيبة ومغامراته النادرة إلى أن انتهى السرد ولم يتبق للسندباد البحري ما يحكيه .
  الهدم والبناء :
 لا يكاد أحد يجادل  في أن الأخذ من القديم  تناصَّا معه ذو منفعة فنية جمالية،إلا أن درجة الاقتباس تختلف من رجل إلى آخر تبعا لمجال تخصصه،لذلك نجد البعض يقتبس من القديم كأسا ومحتوى أو لنقل قلبا وقالبا بينما نلفي البعض الآخر يولي اشتغاله نحو الموروث فيأخذه منه هدْمًا ليعيد بناءه، ولعل هذا ما نجده حاضرا  في طريقة اشتغال الروائي المتميز ( السندباد الذي لا يهدأ) عبد العزيز الراشدي، خاصة في سفره (رحلات سندباد الصحراء ) الذي نال به مؤخرا جائزة الأدب الجغرافي .
ثم إن عنوان الكتاب يحمل أكثر من دلالة ويثير في  ذهن المتأمل عدة إشكالات، من طينة أي سندباد يقصد الراشدي؟، هل السندباد الذي جال البحار أم الذي جال القفار ؟هل السندباد السارد أم السندباد المسرود له،أم الأم يتعلق بسندباد آخر ؟ وهل كان السارد الراشدي شهرزاديا  ثبت  غبش هامشية  السندباد البري أم أنه ألبسه ثوبا يليق بغير مقامه في الحكايات ؟
لمقاربة هذه الأسئلة نقول بأن كتاب (يوميات سندباد الصحراء ) عبارة عن مشاهدات مر بها الكاتب في أماكن متباينة،منها ما هو وراء البحار كجنيف وباريس .... ومنها ما يمتد في البراري كمراكش و فاس القاهرة ودمشق والمنامة .... وهو ما يعني أن المحكي لم يكن وحسب متعلقا بغَوْلِ البحار في البدايات والنهايات حيث يغامر السندباد البحري،بل حتى بالفلاة التي يتنقل فيها السندباد البري غير عابئ بركوب الأمواج،فالراشدي إذن أماط اللثام الذي جعل السندباد البري هامشيا من حيث القيام بمهمة السرد،كما خلّصه من مخاتلات المحكي،وساوى بينه وبين السندباد البحري،إذ لم يعد أحدهما  ساردا والآخر مسرودا بل صارا معا ساردين تحت غطاء واحد وينصهران في ذات واحدة هي ذات عبد العزيز الراشدي . وعليه إن ذات الكاتب في كتاب "يوميات سندباد الصحراء " مشتملة على ذوات متعددة منها ذات الأديب وذات الرحالة وذات الاثنوغرافي  على الرغم من وجود محددات وملامح طفيفة تميز بين هذه الذوات، فالرحالة مكتشف لأنحاء الأرض وواصف لأقوام البشر ومبرز لحقائق تاريخية عظيمة، و الاثنوغرافي يهتم أساسا بوصف طبائع البلدان وخصال أهلها وأسلوب حياتهم وعلى غرار هذا فالأديب قد يكشف ويصف، لكن الكشف كشف خيالي أكثر مما هو واقعي، والوصف وصف تعبيري أكثر مما هو تسجيلي،كما يبدو ذلك جليا مع الكاتب الراشدي من خلال كتابه السالف الذكر،سيما أنه كان يقف ما مرة يتأمل التناقض الحاصل بين البيئتين العربية والغربية والذي أجده مضمّنا في مجموعة من الأسئلة  تحضر في ثنايا الكتاب،ولعل هذا ما سأعرض له الآن بتفصيل
هوس السؤال:
        كثيرة هي الأسئلة التي تشد عضد النص وتقويه،وهي أسئلة طورا يكون الكاتب نفسه مصدرها وطورا يكون مصدرها عنصر آخر يشارك الكاتب وحشة المكان وهدهدته ثم عذوبته وهدأته .
وأغلب هذه الأسئلة لا يأمل الكاتب من طرحها تلَقِّي الجواب، وإنما الكشف عن جوانب معتمة، أو إبراز مفارقة عجيبة، أو للاهتداء أحيانا، وهو ما يعني أن  أغلب الأسئلة هنا غير حقيقية بل كثيرا ما تخرج عن المعنى الأصلي لتتناسب والحالة التي عليها الكاتب، أو المشهد الذي يحكي عنه، ومن تلك الأمثلة نورد على سبيل المثال لا الحصر:
ـ سألني الشرطي عن سبب زيارتي؟
ـ سألت العديد من الناس عن الطريق ؟
ـ وسألته بإلحاح المصاب بنوبيا التيه عن المحطة القادمة ؟
ـ وأقول لنفسي متى صنعوها ؟متى يعمل هؤلاء؟
ـ ماذا تقولين له ؟
لا مراء أن أهمية السؤال هنا  لا تكمن في كون الكاتب ليس اثنوغرافيا محضا يروم وصف عادات وتقاليد مختلفة لثقافة أناس معينين وإنما  باعتباره أديبا تضفي أسئلته على النص نسمة أدبية مائزة، الهدف منها إيقاظ الشعور والتأمل في مواطن الجمال في الطبيعية وكذا الكشف عن التفاوت الصارخ الحاصل بين بيئتين مختلتين في كافة المناحي، فضلا على أن توظيف السؤال على هذه الشاكلة يساهم في تكسير الزمن السردي،ويطرد الملل الذي قد ينساب إلى ذهن القارئ،و يكسبه طراوة ودينامكية تكشف عن عوالم النص الداخلية .

نشر بجريدة رسالة الأمة بتاريخ 2016/12/13 
عبد الواحد البرجي

ليست هناك تعليقات :

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2016 مدونة عبد الواحد البرجي