همسات براقشية
ه
بينما أنا أقطع الشارع الكبير بخطى متئدة، همس إلي صوت
نبي، تحسست المكان ذات اليمين وذات الشمال فلم ألْفِ أحدا، خُيِّل إلي أن جانّا مردا قد تحكم في شفتي وبدأ ينبس ما
شاء من الكلمات، شعرت ساعتئذ بإحساس قرِف، حزين، ينتابني، فتنهدت على مضض، وبدا لي أن
شخصا يحاورني قائلا:
ـ اليأس أمل، بل
هو الجندي الذي يجعلنا نرْقُبُ النفس بالآمال، ولولاه لما كان للأمل طعم ..
ـ الحياة سعادة، والسعادة
روح تنبعث إلينا من القرآن والسنة ..
ـ ابتسم ،ابتسم
....
حينها وجدتني كمن
ولد ثانية، ولد ليسعد، فبدأت أنظر إلى الأشياء منتشيا بها، أنظر إلى السماء فأشعر
أني نورس أقود سربا من النوارس في سماء الفرات الأخاذة، وبجانبي طائر عوا يتهادى
في تناغم مع خرير الأمواج المتلاطمة، وكلما تأملت الحيطان الإسمنتية، بدت لي
هادئة، مبتسمة، مستسلمة للقدر، والناس من حولي في هرولة دائمة، وعلى حين غرة رأيت
شابا ثخين الجسم يرتدي جلبابا أمهق، وتنسدل منه لحية كثة تواري عنقه، اقتربت منه دون
أن ألوي على شيء، تأملته عن كثب، بحثت في وجهه عن السعادة فلم أجد لها أثرا. كان
وجهه مكفهرا وعيناه غائرتين وأديم وجهه شاحبا، لم أندهش لأني لست أقلّ منه تيْها، ثم
تابعت المسير ودخلت في زقاق معتم، لم أكد أقطعه حتى انبرى إليّ همس جديد، تنحنح
أول الأمر ثم قال بصوت هادئ رزين:
ـ لم تع عمق حديثي،
تأرَّ قليلا وجدّد رؤياك للعالم والأشياء .. فالسعادة ليست إحساسا عابرا، ولا
حقيقة مطلقة، ولا هي مجسدة في لباس براق ولا لحية كثة، بل هي روح الأشياء وجوهر
الكلم وعمق المعاني ...
م
كنت في ذاك المساء متَّكئا على سرير بسيط، فأحسست
أن الجدران بدأت تحوطني، وخشيت أن يسترب إلي اليأس من جديد، وتفر مني روحي وإحساسي، فتقدمت نحو النافذة، أزلت عنها
الستار، حملقت عبثًا في السماء فوجدت الشمس قد شاخ شعاعها وتغيرت سحنتها، فتمتمت
مع نفسي: هل الشمس يا ترى فقدت الحياة مثلي، أم أن الحزن قارب بين خطونا ؟، طبعا
لم أحفل بالجواب لأني تذكرت أن الشمس فقط
تسير إلى مرقدها لكي تتجدد فيها الحياة، وتملأ نفسها سعادة في الصباح، أما أنا فقد
خرجت أبحث عن سعادتي المتوارية كما المعهود، قصدت منتزها وسط المدينة، جلست على
أريكة فولاذية، فبدأت عيناي تطوفان المكان كأنهما تبحثان عن شيء لا مرئي، وسرعان
ما سمعت كركرة متعالية، تتبعت تموجها في الهواء، فانتهى بي النظر عند أشخاص ثملين
يرتدون ملابس نَتِنَة،تتخللها بقع وثقوب، ويتكئون على أسمال بالية، لكنهم حتما
كانوا سعداءً جدا . سرّني ذلك كثيرا
وأحسست بالسعادة، فتقدمت نحوهم، اصطنعت ابتسامة على محياي ما لبتت أن اتخذت شكلها
الطبيعي، فقد أمسيت أكثر ثمالة من هؤلاء، سعدت حقا لأني شربت سلافة عنبية ذهبية
أخاذة، لذا فقد شربت كثيرا وبدأت أهيم بكلام يشبه السباب أو كلام المجانين، والناس
من حولي يمرون ويطيلون النظر، بعضهم يضحك والبعض الآخر يحرك شفتيه بكلمات لا شك
أنها ازدرائية، لكني لا أحفل بها. وبعد حين فقدت سعادتي و نظرت من حولي فلم أجد
غير الأشجار والزهور النائمة، فاجتاحني شعور بالندم والحسرة، آه لهذه السعادة
اللحظية كم هي قرفة تشبه لحظة انتشاء حلزونية، تحسست نقودي، فأدركت أنها تحولت إلى
ندامة جديدة لؤلئك الثملين الأشقياء، فعدت أدراجي أبحث عن سعادتي ...
س
أردت أن أنام لكن
الليل طويل، والكرى لا يغازل جفوني، فقد ألمّ بي طيف متزن، هادئ،قرأت على وجهه
أرخبيل السعادة .
ـ سألته من أنت ؟
فرد مسرعا:
ـ أنا لا أحفل بهويتي، فأنا جزء منك، لكني لست
أقيد سعادتك ولا أجعلها تفْترُّ وتفقد جوهرها، و إنما أنا ذاتك الثانية التي تسكنك،
جئت لأعلمك كيف تنقل الصراع إلى حوار،والشطط
إلى اتزان، فذاتك الأولى لن تستطيع أن تلهمك السعادة لأنها عِداك، وبينها وبيني
امتداد زرقة البحر، والعدو مهما تنازل لابد أن يدوس الأمل ويخلق اليأس، أما ذاتك
الثانية فهي تمدك بسعادة مزيفة، لحظية، تشبه سعادة الحيوانات، بيد أن السعادة سريانٌ روحيٌ وليس بهيميًا ...
قاطعته بصوت أجش
خشن: وكيف لخلي برئ يحمل هموم النائمين بلا مأوى و الظاعنين والعزل والمتعبين
والمتشردين، أن ينعم بالسعادة ؟
ـ أن تجعل مني
نبراسا تهتدي به في الطرقات ...
ـ لكن من أنت ؟
ـ أنا ذاتك
الثانية مكمن الوسطية والاعتدال
ـ ومن أين لي بذلك
؟
ـ أن تنسج وفاقا
بيننا نحن الذوات ...
ذ: عبد الواحد البرجي، المغرب
ليست هناك تعليقات :
اضافة تعليق